النبي محمد عليه السلام استعاذَ من الذل والفقر والجبن والبخل وغلبة الدين وقهر الرجال، والشعب اللبناني يعيش الآنَ أَلمَ تلك المفردات بكافة معانيها ومعاناتها، ويقيناً فقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، حتى بات لبنانُ مستنقعاً لا تَصلح فيه الحياةُ للعيش والتعايش، فهو اليومَ أشبه بثكنة عسكرية للاعتقال القسري وعلى صورة سجنٍ بلا قضبان.
فالمواطنون أحسُّوا ويْكأنّهم أسرى ومحكومٌ عليهم بالإقامة الجبرية، بل وعاجزون حتى في الدفاع عن أنفسهم في وجه طبقة حاكمة ومتحكّمة في رقاب الناس وبلا رقيب ولا حسيب، وللأسف فكل الدولة طوعَ أيديهم.
وإنّ كلَّ شعارٍ وطرح ومبادرةٍ إصلاحية ابتداءً من مختار ورئيس البلدية والنيابة والوزارة وانتهاءً بالرئاسات تعتبر هراء ولعبة مكشوفة.
فالذي ينفع صاحبَه في هذه المرحلة التاريخية الراهنة هو كيف يستطيع اللبنانيُّ الخروجَ الآمِنَ من لبنان بأسرع وقت ممكن،لأنّ الذل والمهانة التي يتجرعها الناس بلغت مستويات مخيفة، لذا فالرحيل عن لبنان إلى بلاد الغرب أضحى واجباً وفرضاً حتمياً وضرورةً وجودية لمن استطاعَ إلى ذلك سبيلا.
وندائي إلى قادة بلاد الغرب: أشْفِقُوا على شعبٍ عزيزٍ ذُلَّ بعدَ عِز، وارحَمُوا مَن في لبنان يرحمكم مَن في السماء.
فالشعب اللبناني منكوبٌ بإعصارٍ وزلزالٍ هزَّ كيانَ كلِّ فردٍ وجماعة منه وبلا استثناء، ولولا نعمةُ الاغترابِ الذي يفيض خيراً على أهله وأبناء وطنه لكان المشهد مرعباً .
ولو أنّ السفارات الأجنبية سمحت للبنانيين بالهجرة إليها ما بقيَ في لبنان غيرَ خزانات المياه فوق السطوح.
وأقول بأنّ الأيامَ المقبلةَ كما المُدْبِرَةَ ستكون أشدَّ إيلاماً وحزناً عن سابقاتها، وستنوءُ عن حملها الجبال الراسيات، وكأنك الآنَ أمام مشهد يوم القيامة بكل علاماته الصغرى والكبرى.
وأذكر أنّي كتبتُ سطراً منذ سنين قريبة ( إنّي أرى ما لا تَرَوْن، وستبكون كثيراً حتى ليتمنّى أحدُنا الموتَ وهو قيد الحياة).
فالسنتان السابقتان، وحتى هذه اللحظة الراهنة فقد كبرنا بالسن عشرين عاماً بطعم العلقم، حتى بدت علينا مظاهر الشيخوخة المبكرة وهرم في عمر الشباب.
فالسواد الأعظم من الشعب اللبناني بدأ رحلةَ البحث عن الوطن البديل، بعدما تلاشى الأمل ببلدٍ يحلم فيه.
فلبنان وبكل أسف قد تحلل من قضيتين أساسيتين لمقومات بناء ثقافة الدولة: المواطنة الصالحة والحكم الرشيد، والإثنان غير متوفرين في السوق الرسمي والموازي.
وأجرأ بالحديث عن إصابات أكيدة في الاضطراب بالقلق والاكتئاب والخوف والحزن والقهر والذل والخذلان والتوحُّد وفقدان الثقة والأمل بالحاضر والمستقبل.
فالناس عندنا لم تعد ترى لعيشها لذة ولا لعمرها بركة، ففي كل صبيحة هناك منغصات ضاغطة على نفسيات المواطنين، فينام أحدنا على خبر سيئ ويستيقظ على خبر أسوء.
ونصيحتي لكل مواطن : مَن استطاع منكم الهجرةَ فليُهاجرِ الآنَ وليسَ غداً، قبل أنْ يجد نفسه مرحَّلاً ومهجّراً ولاجئاً ونازحاً على أبواب السفارات وعلى شواطئ أوروبا.
فلبنان خسِرَ كافة الألقاب الممنوحة له، والتي حازها في حقبة العز والمجد، بل وخرج من دائرة الاهتمام الدولي والاحتضان الإقليمي،فهو الآن متروك لقضائه وقدره، وانتقل من مفهوم الدولة المدنية الحديثة إلى منطق الولايات المنقسمة على نفسها أفقياً وعامودياً حسبما مصلحة الراعي الإقليمي والدولي.
واليوم كأننا نتلمّس علامات يوم القيامة، التي يفرّ فيها المرءُ من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبَنِيْه، والجميع يقول يا رب نفسي.
فالدولة قد تخلت عن دورها، وانسحبت من المشهد العام، وتركتِ الناسَ يأكل وينهب بعضها بعضاً بالاحتكار والتهريب والتخزين، مشرِّعةً سوقَ السودا وبلا رادع أخلاقي وانتماء وطني..
لذا فبوسعنا القول بأن نعوة الوفاة لجسد الكيان اللبناني قد علقت على حائط جغرافيته، وحينها لن ينفع البكاء والندم.
ومما يَحزّ في قلبي أنّ المواطنين يتجرعون الموت في اليوم والليلة كمداً على ذهاب جنى عمرها سدى، فيما الطبقة الحاكمة تجردت من المشاعر والأحاسيس الإنسانية والوطنية، معتزلةً ومتجاهلةً واقعَ الحال، وتعيش في أبراجها العاجية وبكل عنجهية.
ورغم ذلك فإننا على مقربة من موسم الانتخابات البرلمانية القادمة وسنعود إلى تكرار مشهد اقتياد الناس من رقابها بسلسلة من الخطابات التي تدغدغ المشاعر الدينية والحزبية والطائفية والمناطقية الضيقة كالخراف.
فهذا المقال كتبت الآن في الطيارة وأنا بين اليونان وكندا، والحسرة تعتصر القلبَ بالغصة ودمعة العين.
فالراعي يعرف رعيته جيداً، كما قال السيد المسيح عليه السلام : أنا أعرف خرافي، وخرافي تعرفني. والسلام.
عظم الله أجرَ اللبنانيين على وفاة الوطن والمواطنة معاً.