زارنا في اسطنبول الزميل أحمد شلحة قادماً من بيروت وحاملاً معه بقلاوة لبنانية. لمن لا يعرف، فإنها تختلف كلّ الاختلاف عن نظيرتها التركية بمذاقها وقوامها. رأيت العلبة موضوعة على جانب الطاولة. ونادتني زميلتي رابعة، وهي تركية، قائلة “تعالي خذي منها، هذه بقلاوة لبنانية من بيروت، من عندكم!”.
لست ممن يكثرون أكل الحلويات، لكن سماع كلمة بيروت جعلني أقترب بكثير من اللهفة.
اخترت قطعة وقضمتها. ومضات سريعة مرت من أمامي توازي ٢٤ عاماً ولدت وترعرعت بها في لبنان قبل أن أنتقل للعيش في اسطنبول. بالتتالي مرت من أمامي مشاهد طفولتي ومراهقتي وسنوات دراستي وعملي. لحظات قضيتها مع أهلي وأخرى مع أصدقائي. أفاق المذاق مشاعر تعمدت على كتمها وطمسها طيلة السنوات الأربعة الماضية، ظنّاً مني أنني سأحمي نفسي من انكسارات متلاحقة ألمّت بي بعد فراقي عن تراب الوطن.
يقول الكاتب عدنان المقداد إن الوطن هو تلك الروح الهائمة البعيدة التي تسكننا في غربتنا، تعانقنا في كل الدروب، تسكن فينا ولا ترحل عنا حيثما كنا نحمل عبير ونسيم تراب الوطن الغالي لا عشق، ولا هوى، ولا موئل..
بحثت عن ارتباط الحواس بالذاكرة فوجدت الكثير عن حاسة الشم والقليل عن حاسة التذوق. لكن لا يهم. اللقمة حرّكت فيي كلّ حواسي. وعندما تقف الذاكرة على عتبات الوطن ونحن في قمة الشوق و الحنين، نتذكر كل الأشياء التي كانت هناك، وكنا نستمتع بها. رائحة الهال مع القهوة المغلية، المناقيش الطازجة، صوت فيروز في الصباح، تجاذبات المتسامرين في المقاهي، “سندويش اللبنة مع زيتون” التي تضعها أمك في حقيبتك المدرسية وتصل في منتصف النهار شبه ملتوية، الوجوه المعتادة وابتساماتهم اليومية، الضحكات والجلسات العفوية وباللهجة اللبنانية. تتوالى الذكريات وجلها جميلة بجمال ذلك الوطن. فالأهل هناك والزملاء والأصدقاء.. كل شيء باق، حتى الشوارع.. وإن تغيرت التفاصيل. لم أختزل الوطن بقطعة حلوى، لكنها اختزلت ذكرياتي فيه بلقمة!
تنظر إلي زميلتي رابعة والدمعة استقرت في عيني، تسألني “متى آخر مرة زرتي لبنان؟”. أقول لها “تشرين ٢٠١٩”. فتغرورق عيناي بالدمع أكثر.
للحظة أحسست أن حبة البقلاوة حملت لي وطنناً.. يسكننا ونكاد لا نسكنه.. أكرر لنفسي كثيراً أن الوطن هو موطئ القدم، لا مسقط الرأس حيث كثرت الهموم وضاقت باحة الأمل. لكنني أشعر مراراً أنني لن أنتزع حبي لوطني وإن تظاهرت بالغضب عليه. سأحمله كما دائماً في قلبي وفكري، سيَبيتُ ويصبح معي أينما حللت وارتحلت وإن سافرت بعيداً عنه.
وما أثبته اليوم هو حبة البقلاوة اللذيذة.. حلوى لكن بطعم المرّ!
حلوى.. بطعم المرّ | بقلم رشا الحلبي | ٣ أيلول ٢٠٢١